Sunday, March 9, 2008

أربعون يوماً على غياب "حكيم الثورة" والمناضل طوال نصف قرن من أجل قضية شعبه


عباس الصباغ
09/03/2008

قبل 40 يوماً اغمض "حكيم الثورة" عينيه، هو الذي كرّس حياته مناضلاً ومقاتلاً لأجل فلسطين. من تلك الأرض المحسوبة أرضه ظلّ بعيداً، وخلف الأسوار السلكية عاش اياماً وسنوات، وما بين الماضي وظلامه ظل في قلبه قبس حنين دفين.بالأمس عاد... لكنه لم يعد كما كان يتمنى. عاد ليحتضنه تراب الأردن الذي هجره قبل 38 عاماً متوجهاً الى لبنان


يعتبر الدكتور جورج حبش احد رجالات الثورة الفلسطينية وواحد من اكثر المؤمنين بالكفاح المسلح طريقاً لتحرير فلسطين. حبش الذي اسس "حركة القوميين العرب" مع رفيق دربه وديع حداد لعب دوراً قيادياً مهماً في التظاهرات الطلابية التي عمّت لبنان في مطلع الخمسينات من القرن الفائت تأييداً لإلغاء المعاهدة البريطانية المصرية.

وتابع "الحكيم" مسيرته الحافلة بالانجازات من دون ان تغيب عنها الاخفاقات، وخصوصاً بعد نكسة العام 1967 وانحسار الفكر القومي، مما دفع بالطبيب الثائر الى تبني الفكر الماركسي وشرع في تأسيس "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" التي اجتاحتها موجة الانقسامات، فخرجت من رحمها "الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين" وايضاً "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة "وانتقل "الحكيم" الى الأردن سراً في العام 1969 ليغادره بعد عام على وقع ما عرف بأحداث ايلول الأسود


ثم توجه حبش الى لبنان بعدما سرّعت "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" اختطاف الطائرات الغربية وتفجيرها لتسليط الضوء على معاناة الشعب الفلسطيني. وفي العام 1972 نجا حبش من محاولة اختطافه حين قامت اسرائيل بخطف احدى طائرات "الميدل ايست" (الخطوط الجوية اللبنانية) التي كان يفترض وجوده على متنها، الا انه اتخذ الاجراءات الاحترازية في اللحظات الأخيرة قبل اقلاع الطائرة.


اقام جورج حبش في لبنان متظللاً اتفاق القاهرة الذي صادق عليه مجلس النواب اللبناني في خريف العام 1969 والذي شرّع العمل الفدائي انطلاقاً من لبنان، الأمر الذي فاقم في الأزمة الداخلية اللبنانية ومهد لإندلاع الحربصباح يوم الأحد في السادس من حزيران 1982 بدأت اسرائيل اجتياح الجنوب اللبناني، ووصلت الى العاصمة بيروت، واضعة نصب عينيها هدفاً واحداً يتمثل في ابعاد فصائل منظمة التحرير الفلسطينية عن لبنان


وفي اواخر آب من العام نفسه أُرغمت القيادات الفلسطينية على مغادرة لبنان بعد فشل المساعي العربية ونجاح اسرائيل في فرض شروطها التي حملها عامذاك الموفد الرئاسي الأميركي فيليب حبيب.كان جورج حبش من القيادات التي غادرت لبنان، لكنه فضّل عدم الذهاب الى تونس واختار سوريا وجهة له كي يبقى قريباً من وطنه فلسطين.


أصيب حبش أسوة بغيره من الماركسيين بالاحباط، وتزامن ذلك مع انعقاد مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط الذي وضع اللبنات الأساسية لإتفاق اوسلو الذي وقّعه كل من رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الاسرائيلي اسحق رابين في 13 ايلول 1993

لم يقتنع "حكيم الثورة" بالاتفاق الذي ابرمته قيادة منظمة التحرير مع اسرائيل، فعارضه حتى الرمق الأخير من حياته

وبارك "الحكيم" الانتفاضة الثانية او ما عرف بانتفاضة الأقصى التي اندلعت في العام 2000 داخل الضفة الغربية وقطاع غزة، على غرار تأييده ومساهمته في "انتفاضة الحجارة" في العام 1987.ورغم عقيدته الماركسية، تعاطف جورج حبش مع الحركات الاسلامية المقاومة للاحتلال الاسرائيلي في لبنان وفلسطين، وصفّق لانتصار "حزب الله" في الجنوب في 24 ايار العام 2000.


جسّد حبش في شخصه نصف قرن من النضال والعمل العلني والسري من أجل قضية شعبه، بعيداً من أي تشكيك أو إعادة نظر في القرارات أو الخيارات التي أقدم عليها رغم صعوبة بعضها.ورغم تمسكه بالعلمانية ورفضه استغلال الدين باعتباره حلاً للمشاكل السياسية والاقتصادية، فإن حبش مقتنع "بضرورة السير نحو الديموقراطية رغم مخاطر المد الاسلامي"، وبأنه "لا بد من اعطاء الاسلاميين فرصتهم ليتسنى للمواطنين الحكم على أعمالهم" فاختبارهم يشكل "أفضل السبل لإضعافهم"


ولا يشارك حبش الاسلاميين في مواقفهم الاجتماعية، ويشكك في احترامهم الديموقراطية، كما لا يؤيد عملياتهم الانتحارية، لكنه لا ينكر عليهم أنهم اصحاب "مكوّن قومي".وفوز "حماس" في الانتخابات في المناطق الفلسطينية شكّل في رأيه "صفعة حقيقية لكل مؤيدي الديموقراطية في العالم العربي"، لكن هذا لا يحول دون قوله إن "الاسلاميين ليسوا أعداءنا" بل "الغرب الذي لا يريد الديموقراطية إلا لنفسه


لكن التمسك بالاقتناعات والتزام المبادئ، لم يمنعا حبش من الإقرار ببعض الاخطاء، فهو يتناول بداية عمله السياسي في "حركة القوميين العرب" ومن ثم تأسيسه "الجبهة الشعبية"، ويتوقف عند عمليات خطف الطائرات التي نفذتها الجبهة وتولاها وديع حداد. فهذه العمليات برأيه كانت ضرورية في تلك الفترة، لجذب انتباه الرأي العام العالمي للقضية الفلسطينية، وأتاحت عملياً اخراج هذه القضية من المجهول "بفعل احتكار الصهيونية الإعلام الغربي"

أولى عمليات الخطف نظمت عام 1968 وتولاها حداد، مثلها مثل العمليات اللاحقة، مجنداً في بعض الأحيان مناضلين يساريين من أميركا اللاتينية وأميركا الشمالية من بينهم ايليتش راميريز سانشيز الملقب بكارلوس، واستمرت حتى بداية السبعينات حين بدأت تفقد تأثيرها في الرأي العام الغربي

ويقول حبش ان حداد "أراد مواصلة العمليات" التي اعتبرها "واعدة للقضية"، لكن المؤتمر الثالث للجبهة قرر وقفها "فكنت معجباً بحداد" و "كانت لي علاقة خصوصية معه، لكن اللجنة المركزية قررت إبعاده، فانفصلنا موقتاً".ورغم هذا الانفصال، يبدي حبش مودة بالغة لحداد ويصفه "بأقرب وأقدم رفيق لي في النضال"، ويتمنى "على كل من وصفه بالإرهابي، لو أنه تعرف عليه، إذ كان سيكتشف شخصاً استثنائياً


ويتعرض حبش بالتفصيل لنشاط الفصائل الفلسطينية ضد اسرائيل انطلاقاً من الأردن وما آلت إليه لاحقاً من معارك مع الجيش الأردني في اطار ما عرف بـ "ايلول الأسود"، ويأخذ خلالها على القوات السورية والعراقية عدم إقدامها على أي تحرك لمساندة الفلسطينيين.ومن الأردن الى لبنان، الذي يقول حبش إن "اختياره للاقامة فرض نفسه على الفلسطينيين"، كون "النظام السوري لم يكن يسمح بعمليات ضد اسرائيل من الجولان"، في حين أن اتفاقية القاهرة الموقعة عام 1969 تعطي الفدائيين الحق في مهاجمة اسرائيل من جنوب لبنان.

قبل الرحيl وينقل احد المقربين من حبش انه، وقبل دقائق من وفاته في أحد مستشفيات عمان، أعرب عن قلقه إزاء الفرقة بين أبناء الشعب الفلسطيني وحصار إسرائيل قطاع غزة.ويقول عضو المكتب السياسي للجبهة وممثلها في الأردن سهيل خوري "كان هاجسه الرئيسي، حتى وهو في المستشفى، كيفية استعادة الوحدة الفلسطينية وفتح حوار بين منظمتي "فتح" و"حماس"

ويوضح أن حبش وقف على مسافة متساوية من كلا الفصيلين المتنازعين، لكنه كان من أشد المتحمسين للحوار بينهما انطلاقاً من إيمانه بأن الشعب الفلسطيني "سيكون الخاسر الوحيد" في هذا النزاع. ويضيف خوري: "ظل "الزعيم" حتى قبل وفاته بساعات قليلة يسألنا عن التطورات في غزة ومعاناة الشعب الفلسطيني هناك نتيجة الحصار الذي تفرضه إسرائيل".


ويردف "كان مؤيداً قوياً لحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، وكان يتحرّق شوقاً لليوم الذي يستطيع فيه أن يرى منزل أسرته في اللد".ويشير سعيد دياب، وهو صديق مقرب من الزعيم الراحل، الى أن حبش "غضب بشدة" من تصريحات الرئيس الأميركي جورج بوش أثناء جولته الأخيرة في الشرق الأوسط، التي استبعد خلالها ضمناً عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم تطبيقا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الرقم 194 لسنة 1948.

ويقول إن "حبش كان ضد المفاوضات الجارية حالياً بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، وكان يعتقد أن مثل هذه المحادثات مضيعة للوقت وبلا فائدة في ظل رغبة إسرائيل في التوسع والاحتلال".حثّ حبش، وهو يُحتضر، رفاقه على "التمسك بالمقاومة وبأهداف "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" وأهمها تحرير كامل التراب الفلسطيني.وكان الراحل يرى، في أواخر سنوات حياته، أن الحل الوحيد للصراع الفلسطيني الإسرائيلي هو في قيام دولة علمانية يعيش فيها اليهود والفلسطينيون معاً


وفي وقت متزامن تقريباً، صدرت في باريس مذكّراته تحت عنوان "الثوريون لا يموتون".ويقول حبش في الكتاب الذي ظهر على شكل محاورات مع الصحافي الفرنسي جورج مالبرونو "بعد تفكير طويل، توصلت إلى نتيجة أن قيام دولة ديموقراطية وعلمانية هو الحل الوحيد للنزاع بيننا وبين الإسرائيليين، دولة يعيش فيها معاً اليهود والفلسطينيون على قدم المساواة، حيث يكون للجميع الحقوق والواجبات نفسها". ومع إقراره بـ "رومانسية" هذا "المشروع"، لكنه يرى أنه "لن يتحقق السلام ولا التعايش ولا الانسجام بين اليهود والعرب في فلسطين إذا استُبعد مثل هذا الحل"


ويبدي حبش موقفاً حازماً إزاء المسؤولين الفلسطينيين، ويتهم الرئيس محمود عباس بارتكاب "أخطاء (...) ستسبّب القضاء على القضية الفلسطينية". ويلقي باللائمة على عباس لتقديمه التنازلات تلو التنازلات للإسرائيليين الذين لم يعطوه شيئاً في المقابل.

ويرى أن "أبو مازن"، مهندس اتفاقات أوسلو، "يستهين بالوحدة الفلسطينية، ويعتمد على الولايات المتحدة ومصر وإسرائيل للبقاء في منصبه".

هي الكلمات الاخيرة التي قالها "الحكيم" قبل رحيله، فهل مَن يسمع؟

No comments: