Sunday, August 17, 2008

ذكريــــات


انيس صايغ

كتب الكثير عن محمود درويش. وسيكتب الكثير. وسيظل الشاعر الراحل مادة خصبة لمئات المقالات والدراسات. فالانسان الخلاق والمبدع لا يغيب عن الذاكرة بمجرد ان يرحل. وخاصة اذا كان في حجم محمود درويش وفي تعدد عطاءاته وتنوع مواهبه وزخم حياته التي يمكن ان نختصرها بأنها كانت حوالى خمسين سنة من اخصاب الحياة العربية المعاصرة، الثقافية والانسانية والنضالية، ومن إثرائها وتزويقها بوهج لامع قل نظيره. ولعل الناقد يتيه ويفشل اذا أراد ان يصنف محمود درويش: شاعراً او كاتباً او فناناً، مناضلاً وطنياً او إنسانياً، علماً عربياً او فلسطينياً او عالمياً. لذلك، واعترافاً بأن الآخرين سيتفوقون عليّ في تقديم تشريح علمي صحيح وصادق لمحمود درويش وأثره في حياتنا المعاصرة وما سيبقى للأجيال القادمة، سأكتفي بمحاولة رسم صورة للرجل من خلال معرفتي به اكثر من ثلث قرن، تزاملنا خلالها في مهام ومراكز مشتركة في بيروت وتونس اكثر من عشر سنوات.
كان محمود في مطلع السبعينيات قد خرج من فلسطين المحتلة بعد سنوات من النضال والعمل في المجالات الثقافية والأدبية والصحافية بشكل خاص. واقام لفترة قصيرة في القاهرة ـ في شقة صغيرة في احدى طبقات بناية تاجر الضخمة والتي لا يقطنها الا ابناء الطبقة الميسورة والمعروفة. كنت يوماً في القاهرة للمشاركة في مؤتمر بصفتي مديراً عاماً لمركز الابحاث الفلسطيني. ولم اكن قد عرفت محموداً معرفة شخصية. انما كنت، مثل معظم أهل الثقافة العرب، قد سمعت الكثير عنه كشاعر وكمناضل وكفلسطيني قاوم سلطات العدو في الداخل واضطر الى الخروج الى الدنيا العربية الواسعة. وتمنيت على صديق لي يقيم في مصر ليرتب لي موعداً مع درويش لعلي اقنعه بالانتقال الى لبنان والعمل معي في مركز الابحاث وفي مجلة شؤون فلسطينية التي صدرت مطلع ١٩٧١ وكانت اول مجلة عربية شهرية متخصصة بالمسألة الفلسطينية. وقضيت الليلة التي سبقت موعد اللقاء المرتقب في تجميع افكاري وتنظيم الحجج التي سالجأ إليها لاقناعه بقبول العرض. فقد كان محمود، حتى منذ ذلك الحين، يفضل السمعة الادبية التي حققها خلال وقت قصير، أكبر من اي »وظيفة« في مركز الابحاث وفي مجلة حديثة الصدور ولا تعنى بالادب (ولا الشعر) كثيراً. وبالطبع كانت الرواتب ضئيلة جداً. اذكر عن هذا اللقاء الاول انه كان يودّع الفنانة المعروفة وردة الجزائرية وأنا ادخل الشقة. وجلسنا وتحادثنا وكأننا نعرف بعضنا منذ زمن. وحينما فتحت موضوع العمل مباشرة، وأنا اتلعثم في ذكر الامكانات القليلة التي يمكن للمركز ان يقدمها له وخاصة الراتب الشهري المتواضع (اقل من ثمن عدد واحد من جريدة السفير حالياً!)، واترك له خيار اللقب والرتبة والموقع في سلّم العاملين الذين كان عددهم آنذاك يتجاوز السبعين بين باحث ومحرر وتوثيقي واداري، فاجأني (وصدمني في واقع الامر!) اذ قال انه يرحب بأن ينضم الى أسرة المركز، وانه جاهز للمجيء الى بيروت فوراً، وانه يترك لي التفاصيل وتحديد الموقع.
اكتشفت، منذ تلك اللحظة، حقيقة محمود درويش، الرجل الذي يعطي ولا يسأل عن المردود، لا مالياً ولا معنوياً. كانت السنوات الخمس التي ترافقنا خلالها في العمل في المركز والمجلة تنطق بثقة محمود بنفسه وعمله، بحيث لا يعطي مجالاً للسؤال ولا للاهتمام بمنصب او بلقب. اكتفينا بوصفه مشاركاً للتحرير في المجلة ومستشاراً لمدير المركز ـ وفي وقت لاحق أقنعته بأن يقبل بلقب نائب المدير العام. ولا بد من الاعتراف بما كان لمحمود من جهد في تقديم »شؤون فلسطينية« كواحدة من أرقى المنابر الثقافية المختصة بفلسطين. وكان له، وللزميلين آنذاك ابراهيم العابد والياس سحاب، اثر كبير في نجاح المجلة وانتشارها والحصول على اعتراف النخبة الثقافية العربية بها. وكذلك كان لمحمود دور خاص في معالجة مشاكل المركز وهمومه، السياسية والفصائلية والتنظيمية، وخاصة على صعيد علاقات المركز (ومديره) المتوترة دوماً، مع السيد ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك. ولما انفجر الخلاف بين عرفات وبيني في العام ،١٩٧٦ وقدمت استقالتي بالرغم من رفض عرفات لها ورفضه الاعتراف بها، تعبت كثيراً في إقناع محمود ان يتولى المنصب الشاغر في المركز والمجلة. وقبل على مضض ـ ربما وفاء للمركز والمجلة ولي. لكنه لم يتحمل الضغوط والمداخلات طويلا، واستقال بعد اشهر. هناك لقاء آخر مع محمود درويش في القاهرة قبل ان يلتحق بالعمل معي في مركز الابحاث في بيروت. فقد دعاني لحضور حفل افتتاح »اوبرا« وضعها الفنان الفلسطيني ثيودور عرنيطة ملحنا بها قصيدة محمود الشهيرة والرائدة »سجل أنا عربي«. وكانت هذه القصيدة قد سبقت محمود في الشهرة والانتشار، حتى ان محمودا عرف بالقصيدة آنذاك (قبل حوالى اربعين سنة) بمثل ما عرفت القصيدة به. حضرت حفل الافتتاح معه. وكان معنا الفنان المصري متعدد المواهب صلاح جاهين وزوجته الفلسطينية الاصل (من حيفا). ولاحظت ان حفاوة محمود لم تكن تتناسب مع الحفاوة البالغة التي قابل الجمهور بها محموداً وقصيدته المغناة. ولم ادرك السر في تحفظ محمود تجاه هذه القصيدة بالذات الا فيما بعد، اي حينما برز محمود كشاعر فلسطين الاول، وليس مجرد صاحب قصيدة »ثورية« واحدة بالذات. شعر محمود انه يكاد يصبح سجين تلك القصيدة، وكأنها اهم منه او على الاقل علامة مميزة له. وأراد ان يثبت قدرته على استمرار العطاء والتطور في الإبداع. اصبح ينظر الى تلك القصيدة نظرة حامل شهادة الدكتوراة الى شهادة تخرجه في المدرسة الابتدائية! شأن اي شاعر مبدع، كان محمود درويش انساناً رقيقاً، وبالتالي حساسا جدا ومزاجيا الى حد بعيد ـ ربما لا يجاريه في الحساسية والرقة بين شوامخ الادباء الفلسطينيين الا غسان كنفاني. وكنت في علاقاتي الشخصية والمهنية مع كل منهما اراعي هذه الحساسية وافسّر بها بعض المواقف والتصرفات. كان كلاهما يعتز بالسمعة الادبية التي حصل عليها بحق وجدارة: غسان بادبه القصصي ومحمود بادبه الشعري. وكنت وما ازال اعتبر كلاً منهما في قمة الفن الذي اتقنه بامتياز. لكني كنت، في الوقت نفسه، اجد ان غسان الكاتب والمحلل السياسي لا يقل قيمة عن غسان القاص.
واجد محمود الكاتب والمحلل السياسي، لا يقل قيمة عن محمود الشاعر. ولا يهمني أبداً اذا كانت الجماهير تقصر عن رؤية الكاتب في غسان او في محمود بسبب اندفاعها في الاعجاب بكل منهما كأديب فنان من الدرجة الاولى. وفي المقابل كان كل من الاديبين الراحلين يحاول ان يعتبر نفسه أديباً اولاً وكاتباً ثانياً. لذلك كنت اذا طلبت مقالاً تحليلياً من غسان للنشر في شؤون فلسطينية اعتبر ذلك انتقاصاً مني لموهبته كقاص روائي. واذا طلبت من محمود ان يكتب مقالاً افتتاحياً للمجلة بدلاً عني حاول التهرب بالقول انه هو الشاعر وأنا الباحث وانه لا يتجاوز حدوده مثلما أنا لا أتجاوز حدودي! ومع هذا، وبالالحاح الشديد، ظفرت »الشؤون« في عهدي بأفضل المقالات التي كتبها كل من الأديبين الكبيرين. وبقدر ما كان محمود يحب الناس والجماهير ويطرب لتلقيها العفوي واحتفائها الشديد لقصائده ولالقائه، كان يتضايق من الحفلات الاجتماعية الواسعة والتي يفرض عليه بعض اصدقائه حضورها.
وما أكثر ما كان يأتي الى الاحتفال ثم »يختفي« بعد دقائق وسط تساؤلات الحاضرين وإحراجات أصحاب الدعوة! كان مزاجياً. ولا عيب في ذلك. يرحب بمن يحب او يرتاح لمجالسته ومصادقته. ويتهرب ممن لا يكون على مزاجه، اذكر اننا كنا نتناول الغداء في مطعم »شي نو« الصغير في تونس حينما ترافقنا معا في العمل في رحاب جامعة الدول العربية، كمستشارين للامين العام السابق الشاذلي القليبي، وجاء شاب جلس الى جانبنا واخذ يحدّق بوجه محمود طول الوقت. وحينما اردنا الانصراف، وقد بلغ محمود ذروة الانزعاج، قال الشاب له: الست أنت »السي محمود درويش«؟ فرد محمود بعفوية ونرفزة: لا »أنا السي درويش محمود«. وتركنا الرجل يتمتم: »سبحان الله. انك تشبه الشاعر كثيراً«! فالتفت محمود وقال له »ويخلق من الشبه أربعين«. اقام محمود خلال سكناه تونس في فيلا في ضاحية سيدي بو سعيد. وكنت اقيم في شقة في فندق في مكان قريب. وحاول اقناعي بأن انتقل من الفندق الى الفيلا، فيحتل هو طبقة، وأنا طبقة، وتترك الطبقة الاولى لنا معا للاستقبال والطعام. وكانت زوجته تقيم مؤقتاً في لندن وزوجتي في بيروت، حيث كانت كل منهما تعمل وتأتيان الى تونس في الاجازات. ومع ان عرض محمود كان مغرياً مالياً، اذ يخفف عني بعض العبء المالي بسبب الاقامة في فندق، ومغريا ايضا من حيث استمتاع انسان بالسكن بجوار رجل مثل محمود درويش، الا اني اعتذرت. كنت لا أجهل مزاجيته، وأخشى ان تتوتر علاقاتنا الحميمة والصادقة والصافية لسبب تافه ما بحكم الاقامة في منزل واحد. كادت هذه الصداقة تهتز بالرغم من صمودها حتى حينما لم نكن نتفق في الرأي وفي الموقف من سياسات القيادة الفلسطينية.
كان في مطلع الثمانينيات يصدر مجلة الكرمل ويترأس تحريرها. وكنت اترأس تحرير شؤون عربية. ودون ان اعلم ان محموداً سبق ان تعاقد مع كاتبة على نشر مقال لها في مجلته قبلت بعرض السيدة عليّ لشراء المقال منها دون ان تخبرني ان محموداً سبق ان اشترى المقال. ولما علم محمود بذلك، صدفة، وقبل ان ينشر المقال في اي من المجلتين، غضب وثار وعتب. ظن اني كنت اعرف ان المقال له. ثم التقينا صدفة في احد فنادق دمشق. وتعاتبنا وتصارحنا وتصافينا. وتعلمنا درسا بألا »يشتري« أي منا مقالاً الا بعد التأكد من ان كاتبه لم يبعه لشخص آخر! آخر جملة قالها لي محمود حينما اتصل بي هاتفيا من عمان قبل اشهر وبعد ان قرأ مذكراتي: أنت روائي تلبس قميص المؤرخ. اخلع هذا القميص واكشف لنا عن انيس صايغ الروائي. هذا افضل لك ولنا!... وأغلق الخط. ولم أجب. ليس لأنه اغلق الخط، بل لاني لم اعرف بماذا اجيب. فقط تذكرت تضايقه من إلحاحي عليه بكتابة المقالات والتحليلات، معتبراً ذلك محاولة لإبعاده عن الشعر. وليعد القارئ اليوم قراءة النثر الذي كتبه محمود في السنين الماضية ليتأكد من صحة زعمي بأن محموداً الكاتب عملاق بحجم محمود الشاعر. وكلاهما تجسيدان لمحمود الانسان. فالانسان العملاق يكون عملاقاً في كل عمل خلاق يبدعه


السفير

No comments: