نديم جرجوره
بدا الأمر غريباً: أن ترحل رنده الشهّال فجأة، يعني أن خللاً أصاب نظام عيش وأحلام. أن يتوقّف القلب عن النبض، يعني أن لغة مختلفة من التخاطب الإبداعي اصطدمت بجدار الغياب، قبل أن تتحطّم زارعةً شيئاً كثيراً من القهر والألم الداخلي. لكن النبأ، الذي انتشر في أول الليل، لن يكون كاذباً: أصدقاء وزملاء مهنة وعاملون في الشأن السينمائي يقولون الحزن بصمت، ويتدثّرون بالعتمة كي يخفوا دمعةً في العين، أو آهةً سوداء في الحلق، أو غصّة تنفجر بطيئاً. والنبأ، إذ يأتي على غفلة، يُشعرك بهزيمة جديدة أمام قوّة الموت في انتزاع وهم الفرح والطمأنينة. يُشعرك، أيضاً، أن زمناً جميلاً من الرغبات والمواجهات والخلافات والنيّات الصادقة في تطويع الفن من أجل الحياة، يضمحّل رويداً، في مقابل تنامي الخيبات والأوجاع. مساء أمس، أعلنت رنده الشهّال عزوفها عن الحياة بصمت قاهر
لم يشأ أحدٌ أن يُدرك سبب انكسارها أمام القدر، بعد أن صارعت طويلاً مرضاً فاتكاً ألمّ بها فغلبته قبل أن يهزمها. لم يرغب أحدٌ في معرفة سرّ ابتعادها عن المشهد
لم يسعَ أحدٌ إلى فهم معنى الغياب الصادم. فالمسألة، أقلّه في اللحظات العصيبة الأولى، كامنةٌ في أن إنساناً جميلاً رحل، وفنانة صادقة اختفت في الحدّ الفاصل بين الواقع/الوهم والمتخيّل/الحلم، ومبدعة مشاكسة استسلمت لغيبوبة أخيرة.
مساء أمس، بات الليل أثقل وأكثر خوفاً، وباتت الحياة أعنف، وبات الفراغ أعمّ. خمسة وخمسون عاماً. ربيع عمر كأجمل الزهور الطرية. ربيع زمن كأنبل الحكايات المستلّة من ذاكرة فرد وقصة جماعة. لم يُتعبها التزامها شؤون الناس ومتاهات عيشهم وآلامهم، حتى عندما قررت أن تكشف للكاميرا تاريخ عائلتها المناضلة، سياسياً وثقافياً واجتماعياً.
إذ بدا واضحاً أن التجربة الفردية جزءٌ من ذاكرة جماعة، وأن التوغّل في أنحاء المجتمع والسياسة تعبيرٌ عن المكانة الخاصّة والذاتية. بدا واضحاً، بعد دراستها الصيدلة والفلسفة، أن طريقها الأنسب إلى ما فيها من حيوية كامنةٌ في جعل الكاميرا مرآة شفّافة وصادقة للغليان الذي يعتمل في النفس والعقل والمشاعر. ولعلّها صدفة، وإن كانت قاسية، أن تبدأ الشهّال سيرتها السينمائية مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في العام ،١٩٧٥ إذ إنها غاصت في تشعّبات العنف اللبناني، منطلقة من تأثيرات العمل النضالي البحت (والدتها فيكتوريا نعمان محامية ومناضلة في صفوف الحزب الشيوعي العراقي، وهي وأفراد من عائلتها مناضلون في أحزاب يسارية لبنانية)، وباحثة عن معنى العلاقة الإنسانية بين السينما والحيوية الاجتماعية والسياسية في آتون الخراب اللبناني، ولهيب القضايا العربية. ولأن النصف الأول من السبعينيات نفسها شكّلت منعطفاً في سيرة الحركة الثقافية والسياسية والفكرية العربية في لبنان، ولأن عدداً من المثقفين اللبنانيين الذاهبين، حينها، إلى السينما طريقاً إلى مقارعة الظلم والتقوقع والصراعات المتفرّقة، كانت الشهّال صوتاً إضافياً ينادي للحق والعدالة والتحرّر، ويقاوم هيمنة المشاريع الانعزالية، بلغة تلك الفترة.
بعد أقل من ستة أعوام على النهاية المزعومة للحرب الأهلية اللبنانية، اختارت رنده الشهّال فصولاً شتّى من سيرة عائلتها مادةً دراميةً لفيلمها الوثائقي »حروبنا الطائشة«: هل أرادت أن تستقبل حقبة سلم أهليّ لبنانيّ هشّ ومنقوص، باستعادة بصرية ونقدية لهذا الماضي؟ ألا يعني اختيارها هذا تمريناً على إعادة صوغ المشهد الذاتي على ضوء التجارب الفردية؟ ألم تكن »حروبنا الطائشة« جزءاً من المسلسل الدرامي المجبول بالأحلام الكبيرة والخيبات الكبيرة؟ يصعب عليّ التنصّل من هواجس الأسئلة، في هذه اللحظة البائسة إثر إعلان خبر رحيلها، مع أني مدركٌ تماماً عجزي عن بلوغ أجوبة حاسمة. غير أن »حروبنا الطائشة« تحديداً (وإن لم يكن، بالنسبة إليّ على الأقلّ، أفضل أفلامها)، جعلني أبحث عن بعض الذاكرة العامّة في تاريخ بلد مثقل بالالتباسات كلّها. والعناوين السينمائية الأخرى التي صنعتها الشهّال منذ ثلاثين عاماً، تشي بحماسة دائمة لديها في أن تحوّل العدسة إلى مرآة، وفي أن تجعل المرآة صدى للتداخل الفني الجميل بين الأزمنة الثلاثة. فمن »خطوة خطوة« إلى »طيّارة من ورق«، صنعت رنده الشهّال مساراً من التساؤلات الجمّة، وتمارين خصبة في آلية صنع سينما لبنانية عربية منفتحة على آفاق الاختبارات الإنسانية والثقافية والفنية العالمية. التقت »الشيخ إمام«، وسافرت على »شاشات الرمل«، والتقطت نبض العنف اللبناني في »متحضّرات«، وأبدعت في نسج قراءة ما للعلاقات الغربية العربية في »الكفّار«، قبل أن تقف على الحدود، بمعنييها المباشر والرمزي، في قلب الصراع العربي الإسرائيلي (طيّارة من ورق). لم تُحسن دائماً في إنجاز إبداعي متقن لأفلامها، لكن هذه الأخيرة صنعت فصلاً مهمّاً في التاريخ الحديث للبنان والمنطقة، وساهمت في أن تكون السينما ابتكاراً للحياة، أو صنفاً من أصناف عيشها
جريدة السـفـيـر.
No comments:
Post a Comment