Wednesday, September 16, 2009

صبرا وشاتيلا بين فجر يوم ألخميس ١٦ أيلول ١٩٨٢ وغروبة

مقطتفات من كتاب بيان نويهض الحوت عن مجزرة صبرا و شاتيلا
صبرا وشاتيلا بين فجر الخميس وغروبه
شاهد كثير من السكان سيارات تجوب المنطقة منذ صباح الخميس، ويسأن من فيها أسئلة مريبة عن الملاجئ ومواقعها. ويذهب بعض السكان الى حد التأكيد أنه كان رأى سيارات غريبة عن المنطقة يوم الاربعاء أيضاً. تروي زوجة لبنانية جنوبية شابة من قلعة الشقيف، يقع بيتها على خط تماس مع مخيم شاتيلا من جهة الشرق، أنه كان هناك حاجز( إسرائيلي) قرب قصر صبري حمادة على الطريق العام، وأنها شاهدت في الساعة الثالثة من بعد ظهر الخميس ملثمين مسلحين يمرون بالسيارات قرب بيتها، ولم تتأكد من أنهم فدائيون أو مهاجمون. وما حال بينها وبين التأكد أنها كانت تسمع، كغيرها، لعلعة الرصاص في الخارج، فخافت إن هي تركت المنزل وحاولت سؤالهم أن تتعرض للقنص. كان على الطاول أمامها عدد من المناشير التي رمتها (إسرائيل) بالطائرات في اليومين السابقين والتقطها صغار العائلة، وهي مناشير تدعو أهالي صبرا وشاتيلا بالذات الى عدم المقاومة: "سلّموا بتسلموا". وأكملت الزوجة الشابة حديثها قائلة أنه صحيح أنها لم تكن متأكدة من هوية المسلحين الملثمين، ومن العلاقة بين المناشير الداعية الى التسليم وبين تجول هؤلاء المسلحين الملثمين، لكنها كانت متأكدة من حدوث مصيبة ما، فلا يعقل أن يكون من المصادفات انقطاع التيار الكهربائي، وفقدان الخبز نهائياً في ذلك اليوم، والقصف المتواصل. شاب لبناني آخر يسكن في حرش ثابت قال أنه شاهد صباح الخميس سيارة واحدة لا غير تكثر من التجول، وكان من فيها من الرجال
يعتمرون كوفيات سوداً، ويلبسون بدلات خضراً، لكنهم لم يكلموه وإنما كلموا غيره، وسمعهم يسألونهم عن الملاجئ. أوضحت امرأة فلسطينية مشهد سيارة أخرى، بدقة أكثر، فقالت: كل الناس بتحكي عن سيارات غريبة يوم الخميس، لكن أنا شفت سيارة يوم الاربعا بنفس اليوم اللي اندفن فيه الشيخ بشير. أنا شفت سيارة غريبة ما بعرف شو نوعها، بس لونها بيضا، وكان فيها أشخاص اتنين لابسين مدني طبيعي ويسألوا وين في ملاجئ. وتعجبت لما شفت ناس عم بترد عليهم وبتقولهم وبتأشّر هناك في ملجأ. يعني أنا تأكدت إنّو في عملية استكشاف للمنطقة . وأنا بعدين سمعت متل هالكلام من ستات تانيين. كتير ناس كانت تقول بعدين عن سيارات متلها يوم الخميس تبرم وتسأل، وتبرم وتسأل. تسأل عن الملاجئ. لكن ما حدا استشبه بالسيارة اللي شفناها يوم الاربعا ما عدا زوجي، كان ملاحظ عليها وقلّي هاي السياة عم تتردد أكتر من مرة عالمنطقة، هاي سيارة مشبوهة. وكان زوجي مطّلع وفهمان. فلسطينية أخرى، زوجة فدائي، تسكن في شاتيلا بالقرب من روضة الشهيد غسان كنفاني، قالت:أنا شفت عند الضهر يوم الخميس مسلحين ملتّمين لافين حطات على روسهم، وهاطين إشارات فدائية، يمكن حتى يطمنوا الناس وما حدا يعرف مين هنّي. لكن أنا استغربت إنو هدول صاروا يروحوا وييجوا من قدّام بيتنا أربع خمس مرات. ولما استغشيت بمشيتهم وحذرهم رحت حكيت معهم. تلات مرات حيكت معهم. ما ردوا ولا مرة عليّ ولا حكوا أبداً، ولا شفتهم حكوا مع حدا. بس تطلّعوا فيّ وضلّوا رايحين. وضلّوا باستمرار يروحوا وييجوا في الحي. أنا خوّفوني هدول أكتر من القصف الاسرائيلي. تؤكد الشاهددة أن أهل الحي كلهم يعرفون زوجها ويعرفونها، ولو كان هؤلاء الملثمون مقاتلين حقاً من الذين كانوا يترددون عادة على الحي لما كان من الممكن ألا يكلموها. أما الصمت المطبق من جانبهم فتفسره الشاهدة بأنهم حتماً لم يريدوا كشف لهجاتهم وأصواتهم ونياتهم. وربما كانوا مخبرين
في صبرا كان سلوك بعض الرجال الملثمين مختلفاً. فقد ترجل هؤلاء أكثر من مرة من السيارة واشتروا "سندويشات" وبيبسي كولا. هذا ما تقوله فتاة تسكن في صبرا، مؤكدة أن عدداً من الجيران أيضاً شاهد يوم الخميس سيارة عسكرية فيها ملثمون، تجوب الطرقات أكثر من مرة، حتى شك السكان في أن من بداخلها جواسيس. قال شاهد أنه رأى في المناطق المحيطة بشاتيلا، في منطقة بئر حسن وقرب السفارة الكويتية وثكنة هنري شهاب، سيارات جيب صغيرة وكبيرة تتجول منذ العاشرة والدقيقة الثلاثين صباحاً، وقد كتب عليها بوضوح "القوات اللبنانية"، كما ظهرت عليها أرزة الكتائب، لكن هذه السيارات بالذات لم تقترب من منطقة شاتيلا. يعلق الشاهد بقوله إن مهمة هذه السيارات لم تكن الاستكشاف، وإنما كانت أشبه بإعلان في شأن ما سيجري. هذا ما قدره هو ورفاقه فيما بعد، لكن لم يكن في إمكانهم معرفته في حينه. هؤلاء الذين انزعجوا من السيارات الباحثة عن أماكن الملاجئ داخل شاتيلا الكبرى ما كانوا سوى الذين تنبهوا لها وشاهدوها. أما المشكلة التي قضّت مضاجع السكان جميعاً فكانت فقدان الكثير من المواد الغذائية. صباح الخميس، كانت شوارع المخيم ومنطقة صبرا وشاتيلا كلها تغص بالناس، وكان على الوجوه حيرة، وخصوصاً بعد اكتشاف الجميع أن الخبز مفقود، وأن التيار الكهربائي مقطوع أيضاً. ومع الحصار( الاسرائيلي) للمنطقة، ومع الأنباء عن دخول الجيش (الاسرائيلي) "بيروت الغربية" من ستة محاور، ومع القصف
المدفعي( الاسرائيلي) المتقطع للمنطقة، ومع التراشق بالرشاشات بين بعض الشباب الفلسطينيين واللبنانيين من أهل المنطقة
وبين( الإسرائيليين)، لم يتجرأ معظم الناس على مغادرة منطقة صبرا وشاتيلا المحاصرة، حتى بحثاً عن الخبز. مع تقدم النهار، أخذ
الجيش( الاسرائيلي) يقصف مخيم شاتيلا ومحيطه قصفاً مركزاً. وكان طبيعياً أن يهرب الناس الى الملاجئ حتى ضاقت بمن فيها. ولم يجرؤ أحد على العودة الى بيته لجلب الطعام للصغار إلا حين كان القصف يتوقف نسبياً. بعيد الساعة الثالثة بعد الظهر، اشتد القصف على مدخل المخيم الجنوبي من مرابض المدفعية( الاسرائيلية) القائمة على كثبان رملية بالقرب من السفارة الكويتية؛ وهو المدخل نفسه الذي ستبدأ عنده المجرزة بعد ساعات قليلة. أما قبيل الساعة الخامسة، فقد اشتد القصف من الآليات( الإسرائيلية) التي تربض بالقرب من المدينة الرياضية على الطريق الرئيسي بين ساحة شاتيلا وساحة صبرا، حتى لم يعد هناك متسع في الملاجئ للمزيد، ولا في جامع شاتيلا الذي امتلأ بالنساء والأطفال ظناً أن الأماكن الدينية آمنة. ومما زاد في هلع السكان احتراق بناية مخللاتي بالقرب من الجامع؛ وهي من المباني القليلة المرتفعة، إذ تتألف من خمس طبقات. كان من اللافت للنظر انقسام الرأي ضمن العائلة الواحدة. فقد كان عدد من أفرادها يهرول الى الملجأ الأقرب، بينما يرفض الباقي مغادرة البيت، إما التصور لا مبرر له بأن القصف لن يطول، وإما كرهاً لوضعية الملاجئ التي تكون مكتظة بالبشر. هذا ما دعا بعضهم الى البقاء في البيوت مفضلاً انتظار المجهول. لكن لم يكن أحد ليتصور أن المجهول مجزرة. وقد أدت الانقسامات في الرأي ضمن العائلة الواحدة الى أن يجابه أفرادها أكثر من مصير. أما العائلات السعيدة الحظ فهي التي تمكن أفرادها جميعاً من مغادرة المنطقة. وقد غادرها معظم هذه العائلات من الجهة الشمالية في اتجاه جامعة بيروت العربية وكورنيش المزرعة، أو من الجهة الشرقية ليس بعيداً عن قصر صبري حمادة. وأما الأماكن المحدودة التي كانت توحي بأمان نسبي في منطقة صبرا وشاتيلا، فهي المستشفيات الثلاثة التي تشكل مواقعها زوايا أضلاع مثلث يحيط بالمنطقة، وهي مستشفيات عكا وغزة ومأوى العجزة، وقد غصت هذه بالوافدين من العائلات ومن الشباب. تروي ممرضة فلسطينية طبيعة الرعب الذي سيطر على صبرا وشاتيلا في تلك الساعات التي سبقت المجزرة: الخميس حوالي الساعة ٢، الخميس الضهر اشتد القصف كتير من الساعة ٢ وبالرايح. صار القصف كتير كتير، نفس المكان الواحد تنزل القذايف عليه مرات ورا بعضها، والعالم كلها راحت على الملاجئ. ما ضلّش في حدا بالبيوت. يعني الناس اللي ضلّت بالبيوت ما في ملاجئ جنبها. أما الشاب الفلسطيني الذي قال له (الإسرائيلي) مع رفاقه: "بس نهار الجمعة خدوا اخواتكم وأهلكم"، والذي ذهب لإيصال صديق جريح الى المستشفى عند غروب شم الخميس، فقال أنه فوجئ بانسحاب الجيش( الاسرائيلي) من مستديرة المطار، وكذلك بانسحاب (الاسرائيليين) الذين كانوا بالقرب من مستشفى عكا في بئر حسن. ولم يفهم قط حينئذ لماذا انسحبوا فجأة، لكنه فهم بعد ذلك أنهم أرادوا إخلاء الطريق للميليشيات اللبنانية الآتية من ناحية المطار لدخول شاتيلا من جهة بئر حسن. حدثان لا تنساهما ذاكرة اهل المخيم أبداً في الساعات الأخيرة ما قبل المجزرة، وقد كانت نتيجة كل من الحدثين مأساوية، إذ عرف فيما بعد أن كثيرين من الذين شاركوا فيهما قتلوا أو خطفوا، وذلك على الرغم من أن كلاً من الحدثين انطلق من أجل السلام وحقناً للدماء. حين يتحدث سكان شاتيلا عن الحدث الأول، فهم يطلقون عليه "وفد السلام". أما حين يتحدثون عن الحدث الثاني، فهم يطلقون عليه "مظاهرة النساء"، أو "مظاهرة النسوان" في الدارج

No comments: