Saturday, November 28, 2009

تواصل وذكريات مع محمد حربي


الجزائر من طرد الاستعمار إلى حضنه الدافىء

عادل سمارة
التقيته للمرة الأولى في باريس نفسها عام ١٩٧٧، وليس بمحض الصدفة طبعاً، بحضور أمينة والعفيف وإيلان وكاترين وغيرهم/ن. كان من بين من لجأوا سياسياً من الجزائر "المستقلة" إلى فرنسا المفترض أن الشعب الجزائري دفع أكثر من مليون شهيد للتحرر من استعمارها الاستيطاني الأبيض. هل هي المفارقة المدهشة، أن يحتمي الثوريون في نهاية المطاف بالبلد العدو نفسه، اللجوء بعد إدماء فك الوحش إلى الوحش نفسه. كان ذلك اللقاء حين زرت فرنسا للمرة الأولى لحضور مؤتمر عن الاقتصاد في العالم الثالث. قضيت في باريس بضعة ايام، ومن ثم ذهبت إلى الريف لأقضي بقية الشهر مع الفلاحين، لم أكن أنطق (أو أهدر كما يقول المغاربة) الفرنسية، ولا الآن
كنت أرغب في لقائه ولقاء سمير امين، لكن الأخير لم يكن في فرنسا في الأيام القليلة التي قضيتها هذه المرة. رتب لنا اللقاء، الرفيق الطاهر المعز الذي صاغ لي برنامجاً اكتشفت رغم غروري بطاقتي، أنني قد أُرهقت حقاُ لكنه الإرهاق الممتع. التقينا في مقهى يحمل اسم باريس بحضور اصدقاء قدامى وجدد من المغرب العربي. لم يتغير الرجل كثيراً، رغم أنه يتجاوز منتصف العقد السابع، فهو من قادة الثورة الجزائرية. وبقدر ما يبدو عليه الألم مما حل بالجزائر والوطن العربي، كان يبدو عليَّ التعب أنا ايضاً من رحلة طويلة، ومن تزامن الرحلة مع برنامج محاضرات عليَّ تقديمها
ليست هذه مقابلة صحفية، وأنا لست، ولم أحب المقابلات الصحفية. ما قصدته بالمقابلة هو قراءة عقل معذب بعد زمن طويل من العذاب السياسي على الأقل، عذاب في حضن غربة لم تنته حتى رغم تغير الظروف وتمكنه من زيارة الجزائر (الجزاير كما يلفظون)، والعودة إلى الوطن الأم فرنسا. فكما اقتلع الاستعمار من الجزائر، اقتلع المناضلون منها أيضاً. هل يستوي الذي ناضلوا والذين قَتَلوا
بعد الاستقلال والعمل في الدولة الجديدة، أُدخل الزنازين، مثل تلك الكثرة من المناضلين، والذين ربما كان بشير حاج علي أفضل من كنب عن حالهم: "العسف او التعذيب في الجزائر"، وملخصه أن المحققين الفرنسيين الذين عذبوا مناضلي جبهة التحرير هم أنفسهم عذبوا المناضلين بعد انقلاب بومدين! كيف لا فكمبرادور الجلاوزة يستورد القمع مجهزاً بأدواته. والكمبرادور من أكثر المصطلحات فهما هنا في مدينة الأضواء والعتمة معاً، حيث تراث الماوية لم ينطفىء رغم القمع الراسمالي الملفع بما لا يخر منه الماء. لا بل أنك لتشعر باحتمال الاختطاف وليس الاعتقال
بعد أن عمل في السوربون وخاصة في تدريس التعاونيات، انتهى كمؤرخ إذ حاول تقديم ذلك عبر شرح حياته، فمنحني الجزء الأول من عمره" الصادر عام ٢٠٠١ في باريس بالفرنسية و ٢٠٠٤ في الجزائر بالعربية: "حياة تحدٍ وصمود، مذكرات سياسية ١٩٤٥- ١٩٦٢، إلى أن يصدر الجزء الثاني. وكتابه الثاني: " الثورة الجزائرية سنوات المخاض مثل كل العرب، داهمني بالسؤال عن فلسطين، وكنت أرغب أن أفهم عن الجزاير! كيف الأوضاع وكيف تعيش الناس، وهل ستتصالح فتح وحماس...الخ
والحكمة من هذه المداهمة التي عاجلني بها مختلف العرب الذين رأيتهم في أميركا وفرنسا، هي أن القضية الفلسطينية هي القضية المحورية في الوطن العربي، ما زالت على حالها، وما زال مقرون بها الوفاء القديم. وهذا سؤال أتوجه به إلينا نحن الفلسطينيين، كيف يمكن أن نحافظ على هذه المحورية، كي لا تقتلها الدولة القطرية، وخاصة القطرية الفلسطينية، التسوية بلا مواربة؟ ليس هذا وحسب، حتى الفرنسيين المتضامنين معنا، وغير الفرنسيين في فرنسا، من الأقوام الأخرى، يتحدثون ويسألون بحرارة القلِق. وهذا أوصلني إلى الاستنتاج أن فريق التسوية كأنما يقوم بتنفير العرب من حيث شعورهم بالواجب، والمتضامنين الذين يتمتعون برومانسية المشاركة في عمل ما في موقع ما ضد العولمة والحرب والعنصرية
كان لا بد لي أن أدير الحديث بالاتجاه الآخر، فالقلق المصيري يلح عليّ ببعده العربي كذلك. أدرنا الحديث عن انقلاب بومدين ضد بن بيللا، وكيف كان ذلك بأن تمكن جيش التحرير كمؤسسة عسكرية من ابتلاع المناضلين الذين كانوا داخل المدن والقرى خلال المقاومة، وكيف تمت رشوة قيادات معينة لتبتعد عن السلطة، ولتتبلور لاحقاً في شرائح طبقية جديدة في الوضع والموقف
يبدو لي أن مؤسسة العسكر في الجزائر تشابهت إلى حد ما مع مؤسسة العسكر قي تركيا، بمعنى أنها المؤسسة الأقوى والمتحكمة، والأكثر تنظيما، فما بالك بالتسليح. يعيد هذا إلى الذهن كتاب أنور عبد الملك: مصر مجتمع يحكمه العسكريون
والجيش حين تسلم بومدين السلطة اصبح هو الدولة/السلطة، سلطة الدولة التي وجدت من مصلحتها "القطرية" أن تطل على المحيط، وليس على المتوسط فقط! وهذا ما يفسر، إلى جانب توفر الحديد، في الصحراء الغربية (البوليساريو) دعم الجزائر للبوليساريو في مواجهة المغرب، كي تصبح دولة مستقلة! هنا يتبدى الجذر القطري، بمعنى، لو كانت السلطة الجزائرية معنية بما هو ابعد من قطري، لوصل الشعب الجزائري إلى المحيط عبر علاقات ما فوق قطرية، بدل أن يصل المحيط بدماء ابناء الشعبين
إذن، هي الثورة الوطنية التي دوخت الاستعمار، لكنها وصلت دائخة إلى السلطة، فدوختها شرائح طبقية، اهمها الكمبرادور الذي بدل بناء التسيير الذاتي، لجأ إلى تصفية القطاع العام
لكن تصفية القطاع العام كان أشبه بتصقية ذلك في الاتحاد السوفييتي اي تقاسم السلطة نفسها جثمان هذا القطاع الذي هو شغل الشعب، الطبقات الشعبية تحديداً، فكان الوليد السفاح هو الفساد
لقد تمتع الكمبرادور بمن فيه قيادات الجيش ورجال السلطة بثروة البلد، إلى درجة تم معها تكفير الشعب بنضالات جبهة التحرير الوطني الجزائرية التي ضاعت بين الجيش والشرائح الطبقية البرجوازية المتعددة، والتي كانت تولد في كل حين طبعة أخرى، أو تتزيى بلباس لكل حفلة رقص. وانتهى الأمر إلى وجود جيش وسلطة، وغياب الحزب
قتح هذا باتجاه قرار الشعب انتخاب بديل، ربما ليس لفرط إعجاب الشعب بالإسلاميين، بل لأنه لا يريد التغيير فقط، بل معاقبة الذين فتكوا بالمجد والاقتصاد، جهد الناس
وكانت المؤسسة العسكرية بالمرصاد ليقوم بالردة ضد نتائج الانتخابات التشريعية في الجزائر، وكان الرد على الجيش من قبل الإسلاميين المتحالفين مع القبايل. وكانت المذبحة المجانية في الجزائر والتي يختلف عليها كل الناس. وكان الدور الأميركي ولاحقا الفرنسي. وفي النهاية غنمت اميركا نفط الجزائر، وتفكك الإسلاميون أيدي سبا، ووصل السيد الغربي، المستعمِر المستدعى إلى درجة الترجي، إلى حالة البحث عن نموذج وطني ليحكم الجزائر
هل هذه اللغة مفهومة؟ مسيرة دامية لطرد الاستعمار الفرنسي المركَّب الاستيطاني/وغير الاستيطاني، وانتقال المناضلين إلى مواقع وتشكيل بنى طبقية فاسدة ومتخارجة، ومذبحة مجانية، واستدعاء الاستعمار ثانية ليس ليستغل ويتحكم بالاقتصاد بل حتى ليبحث عن "قوى وطنية" لتحكم

ماذا عن القوى السياسية؟ هذا شأن أكثر غرابة، فكما هو في الوطن العربي، في الجزائر، تنشط الأحزاب بموجب اتفاق ضمني مع المخابرات، وبالتالي تظل أحزاباً لا مزعجة، مما يجعل همها الوصول لمقاعد برلمانية تقوي مواقع قادتها في الأحزاب نفسها. فاية صفقة؟
يقودنا هذا لإنهاء هذه القصة القصيرة التي أفهمتنا أن هناك مشتركاً عربياً داكناً يؤكد وجوب النضال على الصعيد العربي الشامل نضالاً موحداً

إن الدولة القطرية هي المؤسسة النقيضة للمشروع القومي بدءاً من إصلاح ظروف المعيشة وصولاً إلى التغيير على الأرض
تتنافس في الوطن العربي قوتان،الكمبرادور والإسلام السياسي، وعليه، يميل المجتمع إلى الإسلام السياسي مقابل الكمبرادور الذي يجسد التبعية ويعد بها اكثر
تتحكم المخابرات والجيش بمختلف مناحي الحياة بما فيها نشاطات الأحزاب
تتحدد السياسة القطرية طبقا لسيناريوهات البيت الأبيض.هذا هو المشترك السالب العربي في هذه الحقبة. ولمن اراد فليبحث عن المشترك الحقيقي: وجوب تفكيك مفاصل الدولة القطرية

No comments: