Thursday, April 22, 2010

إلى روح إبن عين ألحلوة ألعزيز عبد ألحميد عثمان ألذي تركنا جسدة يوم ألسبت ألفائت ١٧ نيسان


يوميـّات شبـاب ممنوعيـن مـن العيـش: هنـا مخيـّم عيـن الحلـوة.. هنـا العـدم الممتـد إلـى مـا لا نهايـة


نوال الأسدي


في مساحة جغرافية واحدة، يجتمع الضدّان على الأرض ذاتها

بين وسط صيدا المدينة وبين مخيم عين الحلوة، مسافة ثلاثة كيلومترات، وفاصلٌ زمني يطول أو يقصر بعدد التقارير الأمنية المسجّلة ضد من ينوي العبور بين المنطقتين
والمخيم يمتد على مساحة ثمانمئة متر مربع، ويحتضن في أزقتّه أكثر من ٤٧ ألفا وخمسمئة لاجئ فلسطيني، وفقاً لأرقام وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الاونروا»، في حين تقدّر اللجان الشعبية عدد سكانه بما بين سبعين إلى ثمانين ألف نسمة
والمخيم الذي أقيم على عجل في العام ١٩٤٨، وكان عدد سكانه يومها حوالى ١٥ ألف نسمة غالبيتهم من الجليل الأعلى، بات اليوم أكبر مخيمات لبنان من حيث عدد السكان. وإلى ارتفاع نسبة الولادات على امتداد الأعوام الستين الماضية، لجأ إلى عين الحلوة مهجرّو الحرب الأهلية من مخيمّات الشمال والنبطية وتل الزعتر
فئة الشباب تحتل النسبة العظمى من بين سكان المخيم حيث يتوزعون في الأزقة الضيّقة، يغرقون في أسرارهم، فيضج المكان بتناقضاتهم وأحلامهم المتواضعة والهاربة دائماً إلى الأمام. بعضهم اختار العودة للدين، وبعضهم اختار الانتساب لتنظيمات «علمانية». ليست هويّة التنظيم أساسية. في حلقات الفراغ، تصبح كلّها متشابهة. يدفع قادتها الطاقات للتسلّق بعيداً نحو الهاوية وإن بأشكالٍ مختلفة اختلاف الانتماءات ومؤثرات التجهيل وممارسات القمع المتعددة، عن سابق إصرار وتصميم
معلقّون هم في حالة من انعدام الأمل وتنافي الحياة، وضياع الهوية
يدورون في حلقة مفرغة من العدم. والفراغ هو الثابت الوحيد في نهاراتهم التي تبدأ بفنجان قهوة وسيجارة في «صبحية» تجمع العاطلين عن العمل مع بائعي الخضار في السوق
فهل هو شغف بالمكوث لساعات طوال على جانبي الشارع؟ أم أمل بمرور حسناوات يتمشّين على كورنيش المخيم فيدور غمز وإيماء مشفّر يقودان إلى موعدٍ غراميّ ٍ في أحد الأزقة المتوارية هرباً من المتشددين دينياً واجتماعياً؟
وعندما ينتهي «الدوام الرسمي» في الشوارع الضيقة، وتختتم «نشرات الأخبار» المحلية التي تتناول في كل يومٍ قصة هذا البيت أو ذاك، والعلاقات مع الفتيات، وطلاق هذا وزواج ذاك، يحين موعد الحراسة
يهمّ الشباب كل إلى موقعه التابع لتنظيمه. وفقط حينما ينتهي «الدوام»، تبدأ الطقوس الليلية التي تعيدهم شلّة واحدة في أماكن لا تطأها أقدام المحاسبين، ولا تراها عيون المارّة
وفي المخيم الذي لا يتسع إلا للموت البطيء المحتم، تصبح المشروبات الكحولية هي نجمة السهرات التي تجمع الشباب في خندق واحد، ليشكو كل ذي همٍّ همّه للرفاق. يبيح السكر أحلاماً خجولة ترفرف من حول عزلتهم المحكمة الإطباق. أحلام تحيل الهجرة جنة مقارنة بجحيم الغيتو الذي يحشدهم في مواجهة «آخر» يشعرون دوماً بأنه يرفض وجودهم في محيطه، على أساس أنهم «حالة إرهابية»، رثّة وهمجية، محكومة بالإعدامٍ وهي حيّة

نماذج حيّة للمتسربين المنظمين

ح. ح. يعمل على سيارة أجرة، من الساعة السابعة صباحاً حتى الواحدة ليلاً. تسرب من المدرسة باكراً ليساعد أسرته. وهو طبعاً يخالف القوانين اللبنانية، لأنه لا يملك لوحة عمومية، يفوق ثمنها قدراته المالية. وهو، عند كل دخول وخروج من المخيم، يتعرّض، عنوةً، لفك مقاعد السيارة التزاماً من العاملين على الحاجز بدقّة التفتيش والتدقيق المؤدية غالبا إلى توقيف قسري عنوانه العريض تشابه في الأسماء
سُجن الشاب لمدة ستة أشهر إلى أن تمكّن من توكيل محامية أثبتت «براءته»، فخرج من السجن مهشم الروح والجسد وما زالت آثار الجراح بادية تذكّره بالأشهر الستة وما خبره على امتداد أيامها
أما أ.هـ. فإنه لا يستمتع إلا وهو يقرأ أبيات بدر شاكر السيّاب وأحمد شوقي. وإذا كان قد غادر المدرسة نتيجة ظروف معيّنة، فإن ذلك لا يمنعه من تذّوق الأدب والشعر، إلى جانب لعب الورق وتدخين النرجيلة
من جهته، يتميّز ص. أ. ابن التاسعة عشرة، عن رفاقه بشكل مثير للعجب. هو أساساً لا يخرج من المخيم إلا في الحالات الطارئة تفادياً لما يمكن أن يلصق به من تقارير، أو يصيبه من إجراءات تفتيش تقتضي أن يخلع حذاءه وجوربه ثم يلحق سيّارة الأجرة المركونة على بعد أمتار من الحاجز حافيَ القدمين
هو شبه أميّ، ولا رغبة له في العلم، كما أن لا شعور يعتريه بالندم، ولا رؤية لديه للمستقبل، وليس لديه أي نية للعمل، كل ذلك ليس بسبب أي تمييز يعاني منه، بل لمجرد أنه مصاب بالبلادة المفرطة، على حد قوله
قصة خـ. س. تشبه قصص الآخرين كلهم. هو شاب في الثانية والعشرين من عمره، تسرّب من المدرسة في المرحلة الابتدائية، متخلياً عن حلمه بأن يصبح معلماً ذات يوم، وذلك بتشجيع من «شلّة المدرسة» على حد قوله. هؤلاء كانوا يحضّونه على الهرب الدائم، ومع غياب الرقابة أخذ قراراً مبكراً بالاستقالة من الصف ومن المدرسة، وانضم لاحقاً لأحد التنظيمات المحلّية. هو اليوم «عسكري» براتب شهري قيمته ٣٧٥٠٠٠ ليرة لبنانية، وهو راتب لا يكفيه بالطبع حتى نهاية الشهر. وتتلخّص طبيعة «مهامه العسكرية» بدوام يمضيه في حراسة المكاتب والمسؤولين و.. جهوزية تامة للقتال في حال وقوع اشتباكات أمنيه في المخيم
هكذا، تبتعد الإستراتيجيات الوطنية عن هدف التحرير فيتحول السلاح من رمزيته الوطنية إلى أدوات للاقتتال الداخلي هنا وهناك، اقتتال ضحاياه دوما شبان، فلسطينيون مع وقف التنفيذ، وقيمة دم الواحد منهم تساوي نحو مئتي دولار شهرياً


ألا يخشى خـ. س. خطراً يلاحقه كلما أُطلقت في السماء رصاصة؟

يبتسم ويكشف عن زنده مظهرا آثار إصابة بالغة كان قد تعرض لها في اشتباكٍ سابق، ثم يكشف عن إصابة أخرى في ساقه. ويروي كيف أنه قبل مدّة وجيزة، كان يمشي برفقة صديق له سقط بالقرب منه لمّا أقدم شبان على اغتياله. كل ذلك لم يثنِه عن ترك العمل المسلّح
كيف يعتاش إن استقال؟ من أين يأكل؟ هو بحث فعلاً عن عملٍ بديل، إلا أن فرص العمل في المخيم شبه معدومة، أما خارجه فتكون أصعب وأجرها لا يستحق العناء
عمل خـ. س. لمدة أربع سنوات كعامل في إحدى الشركات في صيدا، قبل أن يستقيل «بكامل إرادته» متعهدّا انه لن يبحث عن أي عمل جديد في «المحيط الآخر». يشرح: «طلّعوني سبع مرات من الشغل، وفي النهاية لم يعد هناك من يصدّق أن سبب تأخيري هو الحاجز». وهو يقول إن الإجراءات التي يخضع لها عند الحاجز اللبناني الواقع في مدخل المخيم صارت تتجاوز حدود التفتيش المستمر إلى التحقيق المتكرر و السبب الرسمي هو تشابه في الأسماء
أوقف ذات يوم لمدة ثلاث ساعات، من دون تحقيق، ثم أطلق سراحه بعدما تبّين وجود تشابه في الأسماء. ولدى عودته إلى المخيم، أوقفه الحاجز نفسه ولم يكن عناصره قد تغيّروا بعد. فسألهم: «ألستم من أوقفني قبل قليل؟»، فأجابوه: بلى، ولكن هذه هي الأوامر
منذ ذلك اليوم، توقفت عن العمل وقلت بدي أضل أطخ مع التنظيم، أحسن من البهدلة والشمشطة كل يوم
يقول: ليس في لبنان وظائف للفلسطينيين. ولما وجدت عملا، اكتشفت أن اللبناني الذي يلتحق بالعمل مثلي يبدأ براتب أعلى من راتبي، ويحصل على ضمان اجتماعي. أما الفلسطيني، فإن أصيب خلال العمل، فليس هناك ما يضمنه
لا حياة هنا، في المخيّم. لا حياة سوى تلك التي يخترعها كل لنفسه. عزلة داخل عزلة. يصعد يوميا إلى «الجبل» - جبل الحليب الواقع داخل المخيم - يجلس وحيداً مع زجاجاته الخضراء، ويسرح في خياله مبتعدا عن الأفق المسدود، يحلم بالهجرة بديلا عن البقاء هنا، هكذا، حتى الموت. أحيانا تتملكه جرأة إضافية، فيحلم بأنه سيعود إلى فلسطين
وحده الهوس بالهجرة متفش في المخيم. ليس حباً بالغربة، بل تمسكاً بسبل العيش الكريم. مجرّد بحث عن حياة تشبه حياة سائر البشر، مجرد إمكانية الحصول على مهنة متواضعة ـ أو تأسيس مصلحة خاصة، تمكّن المرء من الشعور بحد أدنى من الاستقرار الذاتي وربما حتى التفكير بإنشاء أسرة والتجرؤ على التقدم للزواج. لا احتمالات زواجٍ واردة في أفق الشباب المغلق ما دامت الحال على ما هي عليه
هو متأكد من أنه سيجد في بلاد الهجرة إمكانية لإعادة تأهيله عملياً، وفرصة عمل تمكنّه من جمع مبلغ كاف من المال لإنشاء مقهى أو مطعم صغير، وتأسيس عائلة مستقرة وآمنة. ليس في هذه البقعة المطبقة أي معالم للغد
يقول إنه لن يعيش خارج المخيم إلا في حال السفر. أما العيش في المدينة فيملي دخولاً دورياً لرؤية الأهل والأصحاب، ويترتب عليه أعباء مالية لا قدرة له على مواجهتها. فالغلاء متفش في صيدا، وأزقة المخيم، على ضيقها، تقي العوز

No comments: