ما من وضوح كان ظاهراً للعيان، عند إعلان قيام منظمة التحرير الفلسطينية عام ١٩٦٤أكثر من الوضوح المنبثق عن الميثاق القومي الفلسطيني، وكان وراء ذلك رجل صادق ومحام بارع بحجم المناضل الراحل أحمد الشقيري. والذي بذل جهداً كبيراً في تشكيل مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية إلى جانب زملائه في ذاك الوقت. وكان يتصف بعقلية بناء المؤسسة ولديه خبرة في ذلك، وفي هذه اللحظات لا يسعني إلا أن أقلب الذاكرة في ركنها المشرق من تاريخ كفاحنا الفلسطيني المعاصر، لنتذكر المناضل أحمد الشقيري، ونتذكر معه الإرث الكبير الذي خلفه، والذي ينظر إليه شعبنا بكل فخر واعتزاز. ومع إعلان قيام منظمة التحرير الفلسطينية، وما تمثله من هوية سياسية شرعية للشعب الفلسطيني، أيضاً تم الإعلان في ذاك الوقت عن انطلاقة الثورة الفلسطينية والكفاح المسلح في مناخ من التصميم و الإرادة واستمرار النضال، بالرغم من آثار النكبة و المعاناة والآلام التي ألمت بشعبنا الفلسطيني في الوطن و الشتات، وما أن ظهرت منظمة التحرير الفلسطينية حتى ظهر إلى جانبها تشكيلات الثورة الفلسطينية والمجموعات الفدائية وأبطالها المقاومون الذين استشهدوا والذين لا يزالون يواصلون النضال ويبذلون التضحيات الجسام على مذبح الحرية والاستقلال. لقد جاء تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية كضرورة ذاتية وموضوعية في ذاك الوقت. وتقتضي الأمانة التاريخية هنا، أن نعترف بالدور الإيجابي الذي لعبه أحمد الشقيري، كشخصية وطنية، إلى جانب مجموعة من النخب الفلسطينية المثقفة في تأسيس م.ت.ف كأول تعبير عن شكل ما من أشكال الكيانية الفلسطينية وخاصة في الفترة التي سبقت الإعلان عن تأسيس م.ت.ف
في تلك الفترة، كانت الجامعة العربية تتخذ الكثير من القرارات، لكن القليل منها كان ينفّذ على الأرض، وطبعاً، يجب ألاّ ننسى التناقضات الكثيرة التي تحكم العلاقات بين الأنظمة العربية، ورؤيتها لتشكيل الكيانية الفلسطينية التي تمكن الفلسطينيين من تنظيم أنفسهم، والقيام بدورهم في تحرير وطنهم وتقرير مصيرهم، وفي هذا السياق برز الدور الحاسم للرئيس عبد الناصر، الذي التقط أهمية الموضوع الفلسطيني، وضرورة إيجاد شكل ما لتمثيلهم السياسي، حيث لعب دوراً أساسياً في مؤتمر القمة العربي الأول، الذي انعقد في القاهرة عام ١٩٦٤ لانتزاع موافقة الزعماء العرب على تشكيل م.ت.ف ككيان للفلسطينيين، رغم تحفظات البعض على ذلك. حين أخذ الشقيري الضوء الأخضر من الرئيس عبد الناصر، بدأ سلسلة من التحركات في أوساط التجمعات الفلسطينية، لإختيار ممثلين إلى المجلس الوطني الفلسطيني الأول، الذي انعقد في القدس في أيار ١٩٦٤، ودرس المجلس فكرة إقامة م.ت.ف التي أعلن عن تأسيسها بعد شهر تقريباً، أي في حزيران ١٩٦٤
أيدنا آنذاك كحركة قوميين عرب تشكيل م.ت.ف، ولكن اشترطنا انتخابات حرة للقيادة، نظراً لحساسيتنا تجاه القيادة الفردية للشقيري التي تخوفنا منها، ولكن للأسف لم تتم تلك الإنتخابات، وعينت القيادة تعييناً، كذلك طالبنا أن تكون المنظمة بمثابة تنظيم ثوري يعبئ طاقات الشعب الفلسطيني بهدف تحرير فلسطين كاملة، وأعتقد أن تأييد عبد الناصر لتأسيس المنظمة، كان له دور مؤثر على موقفنا، جعلنا نتغاضى عن شرطنا حول مسألة الانتخابات، وتحفظنا على مسألة التعيين رغم حساسيتنا الشديدة تجاه هذه المسألة
طبعاً كانت هناك مواقف متباينة للتنظيمات الفلسطينية التي بدأت تتشكل آنذاك من تأسيس المنظمة، بينما لاقت الفكرة تأييداً كاسحاً في أوساط الجماهير الفلسطينية في كل أماكن التجمعات الفلسطينية
لم تستطع المنظمة في تلك الفترة ( ١٩٦٤-١٩٦٧ ) أن تعبر تعبيراً دقيقاً عن حالة الغليان والحراك التي تجري في أوساط الشعب الفلسطيني، وقواه السياسية التي بدأت تتبلور شيئاً فشيئاً، خاصة وأن القيادة الفردية للشقيري كان لها تأثير سلبي، ورغم أن بعض أعضاء اللجنة التنفيذية كبهجت أبو غربية، ود. أسامة النقيب ونمير المصري وعبد الخالق يغمور و يحيى حمودة وآخرون أرادوا أن يستمروا في النضال من خلال معركة سياسية مع الشقيري للوصول بالمنظمة إلى قيادة جماعية، لكن الشقيري مثل " أبو عمار" فيما بعد، أصر على قيادته الفردية، لذلك طالبوه بالاستقالة، وترافقت هذه القصة مع التغييرات الكثيرة التي حدثت على أثر هزيمة حزيران ١٩٦٧، وكردّ على الهزيمة صعّدت الفصائل الفلسطينية الكفاح المسلح، وكثرت العمليات الفدائية، وفي نفس الوقت أضعفت الهزيمة القبضة الأمنية للأنظمة العربية، وتعززت الروح الشعبية العربية المؤيدة للمقاومة الفلسطينية والكفاح المسلح، وترافق هذا مع رغبة رسمية عربية بإزاحة الشقيري، وتمثّلت الفصائل في م.ت.ف التي أعيد بناء مؤسساتها، ولكن على صعيد القيادة بقيت فردية، لذلك من جهتنا كجبهة شعبية كنا نفكر منذ البداية بتأسيس جبهة وطنية عريضة، تضم كافة الفصائل، وأعتقد لو تمّ ذلك لتغيّر الكثير من المسائل
كان للشقيري حضوره الدائم وأثره الكبير في تشكيل مؤسسات منظمة التحرير و الاتحادات الشعبية الفلسطينية، ويلفت النظر إلى مواقفه فهو المناضل السياسي الوطني والقومي، وفي مجرى التحولات التي كانت سائدة آنذاك، يبدو لي أن تلك كانت مرحلة انتقالية بالنسبة لشعبنا الفلسطيني ، من شعب لاجئ في الشتات و المنافي والمخيمات إلى شعب هويته المقاومة
وفي الذكرى الخامسة والعشرين لرحيل المناضل أحمد الشقيري. نعيد حساباتنا ونعيد تقييمنا لتجاربنا بعد مضي ما يقارب الأربعين عاماً على تأسيس م.ت.ف، نلمس في كل مرحلة وجود صعود مستمر للقضية الفلسطينية، مهما كبرت التحديات وازدادت المخاطر وأولى هذه التحديات محاولات شطب حق العودة الذي هو بمثابة قضية جوهرية تمثلها منظمة التحرير الفلسطينية والتي انطلقت في أهدافها من العمل على التحرير وعودة اللاجئين الفلسطينيين، والحق يقال كان أحمد الشقيري ينظر إلى هذه المسألة باعتبارها مسألة جوهرية لا يمكن التخلي عنها، وهي بند رئيسي في النضال الفلسطيني، الذي ينشده شعبنا من أجل حقه في تقرير المصير، وإقامة دولته وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين إلى ديارهم وبيوتهم التي شردوا منها، وهذه المسألة لا تقبل المساومة
لقد بذل الشقيري كل ما بوسعه من أجل شعبه، ورسخت تلك المرحلة التي ترأس فيها الشقيري منظمة التحرير طريق العودة للأرض والوطن، عودة الشعب الفلسطيني إلى أرضه، فكانت قضية العودة تتابع بقوة في المنابر الدولية في هيئة الأمم المتحدة، وأعطى الشقيري جل اهتمامه مبكراً لقضية حق العودة
كان القائد جمال عبد الناصر يعد العدة لخوض المعركة مع العدو الصهيوني مراهناً على الأمة العربية والعمق العربي، وبعد هزيمة حزيران عام ١٩٦٧" النكسة" التي أثرت على مسار منظمة التحرير، ظهرت تحديات جديدة، وأنتجت تلك المرحلة قيادة بديلة لمنظمة التحرير. لكن الشقيري ظل حتى آخر يوم في حياته يؤكد على قيم التحرر الوطني. وكان منسجما مع نفسه ومبادئه . فالذاكرة الوطنية الفلسطينية تكن للشقيري مكانة عالية. واليوم وبعد مرور خمسة وعشرين عاماً على رحيله لا يمكن أن ننسى ما تركه هذا الرجل المناضل من بصمات نضالية قومية على مسار منظمة التحرير الفلسطينية. ورغم ما كان سائداً آنذاك من أجواء هزيمة حزيران ١٩٦٧ استطاعت الثورة الفلسطينية تجاوز واقع الهزيمة العربية وسطرت أروع صور الصمود في معركة الكرامة، التي أعادت رهان الجماهير العربية على روح المقاومة والوقوف بوجه الطغيان الصهيوني والتفوق العسكري الصهيوني المدعوم من الغرب الاستعماري. ومنظمة التحرير الفلسطينية بمعناها الرمزي رسخت معنى المقاومة والصمود في أذهان الجماهير العربية من المحيط الخليج. كانت م.ت.ف بالنسبة لأحمد الشقيري هي صوت فلسطين في المنابر العربية والدولية وممثله في الجامعة العربية وأن التاريخ يشهد على حجم ما قدمه هذا المناضل لفلسطين ولشعبه وذلك من خلال نهج التعبئة والتحرير، كان يؤكد دائماً أن المساومات السياسية لن تحرر فلسطين وأن الكفاح المسلح هو الطريق السليم للتحرير
ما أنبل هذه الفكرة التي تشبه صاحبها المناضل الراحل الشقيري
No comments:
Post a Comment